فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنّآ أرْسلْنآ إِليْكُمْ رسُولا}
يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش {كمآ أرْسلْنآ إلى فِرْعوْن رسُولا} وهو موسى {فعصى فِرْعوْنُ الرسول} أي كذب به ولم يؤمن.
قال مقاتل: ذكر موسى وفرعون؛ لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلى الله عليه وسلم واستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرى موسى؛ لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: {ألمْ نُربِّك فِينا ولِيدا} [الشعراء: 18].
قال المهدويّ: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره؛ ولذلك اختير في أوّل الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم.
{وبِيلا} أي ثقيلا شديدا.
وضرْبٌ وبيل وعذاب وبيل: أي شديد؛ قاله ابن عباس ومجاهد.
ومنه مطر وابل أي شديد؛ قاله الأخفش.
وقال الزجاج: أي ثقيلا غليظا.
ومنه قيل للمطر وابل.
وقيل: مُهلكا والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة قال:
أكلْتِ بنِيِك أكْل الضّبِّ حتى ** وجدْتِ مرارة الْكلإ الْوبِيلِ

واستوبل فلان كذا: أي لم يحمد عاقبته.
وماء وبيل: أي وخيم غير مريء، وكلأٌ مستوْبل وطعام وبيل ومُستوبلٌ: إذا لم يُمْرِيء ولم يُسْتمْرأْ؛ قال زهير:
فقضّوْا منايا بيْنهُمْ ثم أصْدرُوا ** إِلى كلأٍ مُسْتوبلٍ مُتوخّمِ

وقالت الخنساء:
لقدْ أكلتْ بجِيلةُ يوم لاقتْ ** فوارِس مالك أكْلا وبِيلا

والوبيل أيضا: العصا الضخمة؛ قال:
لو اصبح في يُمْنى يديّ زِمامُها ** وفيِ كفِّي الاُّخْرى وبِيلٌ تُحاذِرُهْ

وكذلك الموْبِل بكسر الباء، والموْبِلة أيضا: الحُزْمة من الحطب، وكذلك الوبِيل، قال طرفة:
عقِيلةُ شيْخ كالوبيلِ يلنْدد

قوله تعالى: {فكيْف تتّقُون إِن كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الولدان شِيبا} هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقون العذاب إن كفرتم.
وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم.
وكذا قراءة عبد الله وعطية.
قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم.
وقال قتادة: واللّهِ ما يتقي من كفر بالله ذلك اليوم بشيء.
و{يوْما} مفعول ب {تتّقُون} على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول {كفرْتُمْ}.
وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: {كفرْتُمْ} والابتداء {يوْما} يذهب إلى أن اليوم مفعول {يجعل} والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيبا في يوم.
قال ابن الأنباري: وهذا لا يصلح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدّة هوله.
المهدويّ: والضمير في {يجعل} يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف؛ كأنه قال: يوما يجعل الله الولدان فيه شيبا.
ابن الأنباريّ: ومنهم من نصب اليوم ب {كفرتم} وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا عُلّق ب {كفرتم} احتاج إلى صفة؛ أي كفرتم بيوم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنّا أرْسلْنا إِليْكُمْ}
خطاب للمكذبين أولى النعمة سواء جعلوا القائلين أو بعضهم ففيه التفات من الغيبة وهو التفات جليل الموقع أي أنا أرسلنا إليكم أيها المكذبون من أهل مكة {رسُولا شاهدا عليْكُمْ} يشهد يوم القيامة بما صدر عنكم من الكفر والعصيان {كما أرْسلْنا إلى فِرْعوْن رسُولا} هو موسى عليه السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان.
{فعصى فِرْعوْنُ الرسول} المذكور الذي أرسلناه إليه فالتعريف للعهد الذكري والكاف في محل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف على تقدير اسميتها أي إرسالا مثل إرسالنا أو الجار والمجرور في موضع الصفة على تقدير حرفيتها أي إرسالا كائنا كما والمعنى أرسلنا إليكم رسولا {شاهدا عليكم} [المزمل: 15] فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وفي إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيع لشأن عصيانه وأن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفيه أن عصيان المخاطبين أفظع وأدخل في الذم إذ زاد جل وعلا لهذا الرسول وصفا آخر أعني شاهدا عليكم وأدمج فيه أنهم لو آمنوا كانت الشهادة لهم وقوله تعالى: {فأخذناه أخْذا وبِيلا} أي ثقيلا رديء العقبى من قولهم كلأ وبيل وخم لا يستمرأ لثقله والوبيل أيضا العصا الضخمة ومنه الوابل للمطر العظيم قطره خارج عن التشبيه جيء به لإيذان المخاطبين بأنهم مأخوذون بمثل ذلك وأشد وأشد وقوله تعالى: {فكيْف تتّقُون إِن كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الولدان شِيبا} مراتب على الإرسال فالعصيان و{يوما} مفعول به لـ: {تتقون} ما بتقدير مضاف أي عذاب أو هول يوم أو بدونه إلا أن المعنى عليه وضمير {يجعل} لليوم والجملة صفته والإسناد مجازي وقال بعض الضمير لله تعالى والإسناد حقيقي والجملة صفة محذوفة الرابط أي يجعل فيه كما في قوله تعالى: {واتقوا يوْما لاّ يجزى نفْسٌ} [البقرة: 48] وكان ظاهر الترتيب أن يقدم على قوله تعالى: {كما أرْسلْنا} [المزمل: 15] إلا أنه أخر إلى هنا زيادة على زيادة في التهويل فكأنه قيل هبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا أخذة فرعون واضرابه فكيف تقون أنفسكم هول القيامة وما أعد لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه ومتم في الكفر وفي قوله سبحانه: {إن كفرتم} وتقديره تقدير مشكوك في وجوده ما ينبه على أنه لا ينبغي أن يبقى مع إرسال هذا الرسول لأحد شبهة تبقيه في الكفر فهو النور المبين وجوز أن يكون {يوما} ظرفا لـ: {تتقون} على معنى فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والكلام حينئذ للحث على الإقلاع من الكفر والتحذير عن مثل عاقبة آل فرعون قبل أن لا ينفع الندم وجوز أيضا أن ينتصب بـ: {كفرتم} على تأويل جحدتم والمعنى فكيف يرجى إقلاعكم عن الكفر واتقاء الله تعالى وخشيته وأنتم جاحدون يوم الجزاء كأنه لما قيل {يوم ترجف} [المزمل: 14] عقب بقوله تعالى: {فكيف تتقون} الله {إن كفرتم} به فأعيد ذكر اليوم بصفة أخرى زيادة في التهويل والوجه الأول أولى قاله في (الكشف) وقال العلامة الطيبي في الوجه الأخير أعني انتصاب {يوما} بـ: {كفرتم} أنه أوفق للتأليف يعني خوفناكم بالأنكال والجحيم و{أرسلنا إليكم رسولا شاهدا} يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم وأنذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتقيتم الله تعالى فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء وفيه أن ملاك التقوى والخشية الايمان بيوم القيامة انتهى.
ولا يخفى أن جزالة المعنى ترجح الأول وذهب جمع إلى أن الخطاب في {إنا أرسلنا} [المزمل: 15] إليكم عام للأسود والأحمر فالظاهر أنه ليس من الالتفات في شيء وأيا ما كان فجعل {الولدان شيبا} أي شيوخا جمع أشيب قيل حقيقة فتشيب الصبيان وتبيض شعورهم من شدة يوم القيامة وذلك على ما أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود حين يقول الله تعالى لآدم عليه السلام قم فأخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب لا علم لي إلا ما علمتني فيقول الله عز وجل أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيخرجون ويساقون إلى النار سوقا مقرنين زرقا كالحين قال ابن مسعود فإذا خرج بعث النار شاب كل وليد وفي حديث الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحو ذلك وقيل مثل في شدة الهول من غير أن يكون هناك شيب بالفعل فإنهم يقولون في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل في ذلك أن الهموم إذا تفاقمت على المرأ أضعفت قواه وأسرعت فيه الشيب ومن هنا قيل الشيب نوار الهموم وحديث البعث لا يأبى هذا وجوز الزمخشري أن يكون ذلك وصفا لليوم بالطول وإن الأطفال يبلغون فيه أو أن الشيخوخة والشيب وليس المراد به التقدير الحقيقي بل وصف بالطول فقط على ما تعارفوه وإلا فهو أطول من ذك وأطول فلا اعتراض لكنه مع هذا ليس بذاك والظاهر عموم الولدان وقال السدي هم هنا أولاد الزنا وقيل هم أولاد المشركين وقرأ زيد بن علي {يوم} بغير تنوين نجعل بالنون فالظرف مضاف إلى جملة {نجعل} إلخ.
{السّماء مُنفطِرٌ} أي منشق وقرئ {متفطر} أي متشقق {بِهِ} أي بذلك اليوم والباء للآلة مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به يعني أن السماء على عظمها وأحكامها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهو له كما ينفطر الشيء بما يفطر به فما ظنك بغيرها من الخلائق وجوز أن يراد السماء مثقلة به الآن أثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه كقوله تعالى: {ثقُلتْ في السموات} [الأعراف: 187] فالكلام من باب التخييل والانفطار كناية عن المبالغة في ثقل ذلك اليوم والمراد إفادة أنه الآن على هذا الوصف والأول أظهر وأوفق لأكثر الآيات وكان الظاهر السماء منفطرة بتأنيث الخبر لأن المشهور أن السماء مؤنثة لكن اعتبر إجراء ذلك على موصوف مذكر فذكر أي شيء منفطر به والنكتة فيه التنبيه على أنه تبدلت حقيقتها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشيء وقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة والكسائي وتبعهم منذر بن سعيد التذكير لتأويل السماء بالسقف وكان النكتة فيه تذكير معنى السقفية والإضلال ليكون أمر الانفطار أدهش وأهول وقال أبو علي الفارسي التقدير ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع فجرى على طريق النسب وحكى عنه أيضا أن هذا من باب الجراد المنتشر و{الشجر الأخضر} و{أعجاز نخل منقعر} يعني أن السماء من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماءة واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث فجاء {منفطر} على التذكير وقال الفراء السماء يعني المظلة تذكر وتؤنث فجاء {منفطر} على التذكير ومنه قوله الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما ** لحقنا بالسماء وبالسحاب

وعليه لا حاجة إلى التأويل وإنما تطلب نكتة اعتبار التذكير مع أن الأكثر في الاستعمال اعتبار التأنيث ولعلها ظاهرة لمن له أدنى فهم وحمل الباء في به على الآلة هو الأوفق لتهويل أمر ذلك اليوم وجوز حملها على الظرفية أي السماء منفطر فيه وعود الضمير المجرور على اليوم هو الظاهر الذي عليه الجمهور وقال مجاهد يعود على الله تعالى أي بأمره سبحانه وسلطانه عز وجل فهو عنده كالضمير في قوله تعالى: {كان وعْدُهُ مفْعُولا} فإنه له تعالى لعلمه من السباق والمصدر مضاف إلى فاعله ويجوز أن يكون لليوم كضمير به عند الجمهور والمصدر مضاف إلى مفعوله.
{إِنّ هذه} إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة {تذْكِرةٌ} أي موعظة {فمن شاء اتخذ إلى ربّهِ سبِيلا} بالتقرب إليه تعالى بالايمان والطاعة فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته عز وجل ومفعول {شاء} محذوف والمعروف في مثله أن يقدر من جنس الجواب أي فمن شاء اتخاذ سبيل إلى ربه تعالى اتخذ إلخ وبعض قدره الاتعاظ لمناسبة ما قبل أي فمن شاء الاتعاظ {اتخذ إلى ربه سبيلا} والمراد من نوى أن يحصل له الاتعاظ تقرب إليه تعالى لكن ذكر السبب وأريد مسببه فهو الجزاء في الحقيقة واختار في البحر ما هو المعروف وقال إن الكلام على معنى الوعد والوعيد. اهـ.